فصل: تفسير الآية رقم (181):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (181):

{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} شرط، وجوابه {فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} وما كافة ل إن عن العمل. و{إِثْمُهُ} رفع بالابتداء، {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} موضع الخبر. والضمير في: {بَدَّلَهُ} يرجع إلى الإيصاء، لأن الوصية في معنى الإيصاء، وكذلك الضمير في: {سَمِعَهُ}، وهو كقوله: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] أي وعظ، وقوله: {إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8] أي المال، بدليل قوله: {مِنْهُ}. ومثله قول الشاعر:
ما هذه الصوت

أي الصيحة.
وقال امرؤ القيس:
برهرهة رودة رخصة ** كخرعوبة البانة المنفطر

والمنفطر المنتفخ بالورق، وهو أنعم ما يكون، ذهب إلى القضيب وترك لفظ الخرعوبة. و{سَمِعَهُ} يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان. والضمير في: {إِثْمُهُ} عائد على التبديل، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت، فإن الموصي خرج بالوصية عن اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي.
وقيل: إن هذا الموصي إذا غير فترك الوصية أو لم يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الإثم.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه.
الثالثة: ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث، قاله أبو عمر.
الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} صفتان لله تعالى لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المعتدين.

.تفسير الآية رقم (182):

{فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَمَنْ خافَ} من شرط، و{خاف} بمعنى خشي.
وقيل: علم. والأصل خوف، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها. وأهل الكوفة يميلون {خاف} ليدلوا على الكسرة من فعلت. {مِنْ مُوصٍ} بالتشديد قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي، وخفف الباقون، والتخفيف أبين، لأن أكثر النحويين يقولون {موص} للتكثير. وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم. {جَنَفاً} من جنف يجنف إذا جار، والاسم منه جنف وجانف، عن النحاس.
وقيل: الجنف الميل. قال الأعشى:
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي ** وما قصدت من أهلها لسوائكا

وفي الصحاح: الجنف الميل. وقد جنف بالكسر يجنف جنفا إذا مال، ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً}. قال الشاعر:
هم المولى وإن جنفوا علينا ** وإنا من لقائهم لزور

قال أبو عبيدة: المولى هاهنا في موضع الموالي، أي بني العم، كقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}.
وقال لبيد:
إني امرؤ منعت أرومة عامر ** ضيمي وقد جنفت علي خصومي

قال أبو عبيدة: وكذلك الجانئ بالهمز وهو المائل أيضا. ويقال: أجنف الرجل، أي جاء بالجنف. كما يقال: ألام، أي أتى بما يلام عليه. وأخس، أي أتى بخسيس. وتجانف لإثم، أي مال. ورجل أجنف، أي منحني الظهر. وجنفى على فعلى بضم الفاء وفتح العين: اسم موضع، عن ابن السكيت. وروي عن على أنه قرأ {حيفا} بالحاء والياء، أي ظلما.
وقال مجاهد: {فَمَنْ خافَ} أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الأذية، أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، فإن تعمد فهو الجنف في إثم. فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} عن الموصى إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية.
وقال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم: معنى الآية من خاف أي علم وراي وأتى علمه بعد موت الموصى أن الموصى جنف وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل. وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، ولكنة تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى.
الثانية: الخطاب بقوله: {فَمَنْ خافَ} لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصى بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح. والإصلاح فرض على الكفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عم الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل.
الثالثة: في هذه الآية دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح. وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له.
قوله تعالى: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} عطف على {خافَ}، والكناية عن الورثة، ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى، وجواب الشرط {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}.
الرابعة: لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت، لقوله عليه السلام وقد سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» الحديث، أخرجه أهل الصحيح.
وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لان يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة».
وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع».
الخامسة: من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته. روى الدارقطني عن معاوية بن قرة عن أبيه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب الله كانت كفارة لما ترك من زكاته». فإن ضر في الوصية وهي:
السادسة: فقد روى الدارقطني أيضا عن ابن عباس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «الإضرار في الوصية من الكبائر».
وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار». وترجم النسائي: «الصلاة على من جنف في وصيته» أخبرنا علي بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور وهو ابن زاذان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب من ذلك وقال: «لقد هممت ألا أصلي عليه»ثم دعا مملوكيه فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة. وأخرجه مسلم بمعناه إلا أنه قال في آخره: وقال له قولا شديدا، بدل قوله: «لقد هممت ألا أصلي عليه».

.تفسير الآيات (183- 184):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج» رواه ابن عمر. ومعناه في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال. ويقال للصمت صوم، لأنه. إمساك عن الكلام. قال الله تعالى مخبرا عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً} [مريم: 26] أي سكوتا عن الكلام. والصوم: ركود الريح، وهو إمساكها عن الهبوب. وصامت الدابة على أريها: قامت وثبتت فلم تعتلف. وصام النهار: اعتدل. ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار، ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وخيل تعلك اللجما

أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة، كما قال:
كأن الثريا علقت في مصامها

أي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل، وقوله:
والبكرات شرهن الصائمة

يعني التي لا تدور.
وقال امرؤ القيس:
فدعها وسلّ الهمّ عنك بجسرة ** ذمول إذا صام النهار وهجرا

أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة.
وقال آخر:
حتى إذا صام النهار واعتدل ** وسال للشمس لعاب فنزل

وقال آخر:
نعاما بوجرة صفر الخدود ** دما تطعم النوم إلا صياما

أي قائمة. والشعر في هذا المعنى كثير. والصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه السلام: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
الثانية: فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم، وسيأتي بعضها، ويكفيك ألان منها في فضل الصوم أن خصه الله بالإضافة إليه، كما ثبت في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال مخبرا عن ربه: «يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» الحديث. وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات. أحدهما أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
الثاني أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به. وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره. وقيل غير هذا.
الثالثة: قوله تعالى: {كَما كُتِبَ} الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتابا كما، أو صوما كما. أو على الحال من الصيام، أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم.
وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع نعتا للصيام، إذ ليس تعريفه بمحض، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بـ {كما} إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول. وما في موضع خفض، وصلتها: {كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. والضمير في: {كتب} يعود على ما. واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهي:
الرابعة: فقال الشعبي وقتادة وغيرهما: التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع. واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية. وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل ابن حنظلة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمّنّ هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين».
وقال مجاهد: كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة.
وقيل: أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، قرنا بعد قرن، حتى بلغ صومهم خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي. قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي.
قلت: ولهذا- والله أعلم- كره ألان صوم يوم الشك والستة من شوال بأثر يوم الفطر متصلا به. قال الشعبي: لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي، لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الأخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى: {كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
وقيل: التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية.
وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام. وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله تعالى بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} [البقرة: 187] على ما يأتي بيانه، قاله السدي وأبو العالية والربيع.
وقال معاذ بن جبل وعطاء: التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان. المعنى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، {كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهم اليهود- في قول ابن عباس- ثلاثة أيام ويوم عاشوراء. ثم نسخ هذا في هذه الامة بشهر رمضان.
وقال معاذ بن جبل: نسخ ذلك بـ {أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ} ثم نسخت الأيام برمضان.
الخامسة: قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لعل ترج في حقهم، كما تقدم. و{تَتَّقُونَ} قيل: معناه هنا تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي. وهذا وجه مجازي حسن.
وقيل: لتتقوا المعاصي.
وقيل: هو على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام: «الصيام جنة ووجاء» وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات.
السادسة: قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} {أَيَّاماً} مفعول ثان بـ {كُتِبَ}، قاله الفراء.
وقيل: نصب على الظرف لـ {كُتِبَ}، أي كتب عليكم الصيام في أيام. والأيام المعدودات: شهر رمضان، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ، والله أعلم.
قوله تعالى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فيه ست عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {مَرِيضاً} للمريض حالتان: إحداهما ألا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبا.
والثانية أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل. قال ابن سيرين: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة. قال طريف ابن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت إصبعي هذه.
وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر. قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون. وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به.
وقال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام.
وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخص مرضا من مرض فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرضى اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام.
وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر، وقاله النخعي. وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى.
قلت: قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى. قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة.
قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق.
وقال أبو حنيفة: إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر.
الثانية: قوله تعالى: {أَوْ عَلى سَفَرٍ} اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة، والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة. واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا، قال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرة: اثنان وأربعون ميلا، وقال مرة ستة وثلاثون ميلا، وقال مرة: مسيرة يوم وليلة، وروى عنه يومان، وهو قول الشافعي. وفصل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلا، وفي غير المذهب ثلاثة أميال.
وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، حكاه ابن عطية.
قلت: والذي في البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا.
الثالثة: اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين، لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا. ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج، فإن أفطر فقال ابن حبيب: إن كان قد تأهب لسفره واخذ في أسباب الحركة فلا شيء عليه، وحكى ذلك عن أصبغ وابن الماجشون، فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة، وحسبه أن ينجو إن سافر؟.
وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم، لأنه متأول في فطره.
وقال أشهب: ليس عليه شيء من الكفارة سافر أو لم يسافر.
وقال سحنون: عليه الكفارة سافر أو لم يسافر، وهو بمنزلة المرأة تقول: غدا تأتيني حيضتي، فتفطر لذلك، ثم رجع إلى قول عبد الملك وأصبغ وقال: ليس مثل المرأة، لأن الرجل يحدث السفر إذا شاء، والمرأة لا تحدث الحيضة.
قلت: قول ابن القاسم وأشهب في نفي الكفارة حسن، لأنه فعل ما يجوز له فعله، والذمة بريئة، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف، ثم إنه مقتضى قوله تعالى: {أَوْ عَلى سَفَرٍ}.
وقال أبو عمر: هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة، لأنه غير منتهك لحرمة الصوم بقصد إلى ذلك وإنما هو متأول، ولو كان الأكل مع نية السفر يوجب عليه الكفارة لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه، فتأمل ذلك تجده كذلك، إن شاء الله تعالى. وقد روى الدارقطني: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل بمصر قال حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم قال: أخبرني محمد بن المنكدر عن محمد ابن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب. فقلت له: سنة؟ قال نعم. وروي عن أنس أيضا قال قال لي أبو موسى: ألم أنبئنك إذا خرجت خرجت صائما، وإذا دخلت دخلت صائما، فإذا خرجت فاخرج مفطرا، وإذا دخلت فادخل مفطرا.
وقال الحسن البصري: يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج.
وقال أحمد: يفطر إذا برز عن البيوت.
وقال إسحاق: لا، بل حين يضع رجله في الرحل. قال ابن المنذر: قول أحمد صحيح، لأنهم يقولون لمن أصبح صحيحا ثم اعتل: إنه يفطر بقية يومه، وكذلك إذا أصبح في الحضر ثم خرج إلى السفر فله كذلك أن يفطر. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره، كذلك قال الزهري ومكحول ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. واختلفوا إن فعل، فكلهم قال يقضي ولا يكفر. قال مالك: لان السفر عذر طارئ، فكان كالمرض يطرأ عليه. وروي عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر، وهو قول ابن كنانة والمخزومي، وحكاه الباجي عن الشافعي، واختاره ابن العربي وقال به، قال: لان السفر عذر طرأ بعد لزوم العبادة ويخالف المرض والحيض، لأن المرض يبيح له الفطر، والحيض يحرم عليها الصوم، والسفر لا يبيح له ذلك فوجبت عليه الكفارة لهتك حرمته. قال أبو عمر: وليس هذا بشيء، لأن الله سبحانه قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة. وأما قولهم لا يفطر فإنما ذلك استحباب لما عقده فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء، وأما الكفارة فلا وجه لها، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله ولا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة: يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرا، وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق.
قلت: وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذه المسألة (باب من أفطر في السفر ليراه الناس) وساق الحديث عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان. وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس وقال فيه: ثم دعا بإناء فيه شراب شربه نهارا ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة. وهذا نص في الباب فسقط ما خالفه، وبالله التوفيق. وفيه أيضا حجة على من يقول: إن الصوم لا ينعقد في السفر. روي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر. قال ابن عمر: من صام في السفر قضى في الحضر. وعن عبد الرحمن بن عوف: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر.
وقال به قوم من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} على ما يأتي بيانه، وبما روى كعب بن عاصم قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ليس من البر الصيام في السفر». وفيه أيضا حجة على من يقول: إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، وإليه ذهب مطرف، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث. وكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيته لزمه ولم يكن له الفطر، فإن أفطر عامدا من غير عذر كان عليه القضاء والكفارة. وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال: إن أفطر بجماع كفر، لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له، لأن المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره.
وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز: إنه لا كفارة عليه، منهم الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، قال أبو عمر.
الرابعة: واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه: هو مخير، ولم يفصل، وكذلك ابن علية، لحديث أنس قال: سافرنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، خرجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك صاحبي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهما قالا: الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمرو ابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل، لقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
الخامسة: قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} في الكلام حذف، أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض. والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما.
وقال قوم منهم الحسن بن صالح بن حي: إنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام. قال إلكيا الطبري: وهذا بعيد، لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يقل فشهر من أيام أخر. وقوله: {فَعِدَّةٌ} يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار عدده.
السادسة: قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ} ارتفع عدة على خبر الابتداء، تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح فعليه عدة.
وقال الكسائي: ويجوز فعدة، أي فليصم عدة من أيام.
وقيل: المعنى فعليه صيام عدة، فحذف المضاف وأقيمت العدة مقامة. والعدة فعلة من العد، وهي بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، تقول: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. ومنه عدة المرأة. {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لم ينصرف {أخر} عند سيبويه، لأنها معدولة عن الألف واللام، لأن سبيل فعل من هذا الباب أن يأتي بالألف واللام، نحو الكبر والفضل.
وقال الكسائي: هي معدولة عن آخر، كما تقول: حمراء وحمر، فلذلك لم تنصرف.
وقيل: منعت من الصرف لأنها على وزن جمع وهي صفة لأيام، ولم تجئ أخرى لئلا يشكل بأنها صفة للعدة.
وقيل: إن {أخر} جمع أخرى كأنه أيام أخرى ثم كثرت فقيل: أيام أخر.
وقيل: إن نعت الأيام يكون مؤنثا فلذلك نعتت بآخر.
السابعة: اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما الدارقطني في سننه، فروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت {فعدة من أيام أخر متتابعات} فسقطت {متتابعات} قال هذا إسناد صحيح. وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه» في إسناده عبد الرحمن بنإبراهيم ضعيف الحديث. وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان: «صمه كيف شئت».
وقال ابن عمر: «صمه كما أفطرته». وأسند عن أبي عبيدة بن الجراح وابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص. وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن تقطيع صيام رمضان فقال: «ذلك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاه فالله أحق أن يعفو ويغفر». إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلا.
وفي موطأ مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: يصوم رمضان متتابعا من أفطره متتابعا من مرض أو في سفر. قال الباجي في المنتقى: يحتمل أن يريد الاخبار عن الوجوب، ويحتمل أن يريد الاخبار عن الاستحباب، وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء. وإن فرقه أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعي. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر، فوجب أن يجزيه. ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق.
الثامنة: لما قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله، أو برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. في رواية: وذلك لمكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا نص وزيادة بيان للآية. وذلك يرد على داود قوله: إنه يجب عليه قضاؤه ثاني شوال. ومن لم يصمه ثم مات فهو آثم عنده، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع بثمن فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها. ولو كانت عنده رقبة فلا يجوز له أن يشتري غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق، كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله.
وقال بعض الأصوليين: إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصي على شرط العزم. والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط، وهو قول الجمهور، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض.
التاسعة: من كان عليه قضاء أيام من رمضان فمضت عليه عدتها من الأيام بعد الفطر أمكنه فيها صيامه فأخر ذلك ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر فلا إطعام عليه، لأنه ليس بمفرط حين فعل ما يجوز له من التأخير. هذا قول البغداديين من المالكيين، ويرونه قول ابن القاسم في المدونة.
العاشرة: فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضى فيه رمضان فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: نعم.
وقال أبو حنيفة والحسن والنخعي وداود: لا.
قلت: وإلى هذا ذهب البخاري لقوله، ويذكر عن أبي هريرة مرسلا وابن عباس أنه يطعم، ولم يذكر الله الإطعام، إنما قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
قلت: قد جاء عن أبي هريرة مسندا فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال: يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكينا. خرجه الدارقطني وقال: إسناد صحيح. وروي عنه مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: «يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا». في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان.
الحادية عشرة: فإن تمادى به المرض فلم يصح حتى جاء رمضان آخر، فروى الدارقطني عن ابن عمر أنه يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة، ثم ليس عليه قضاء. وروي أيضا عن أبي هريرة أنه قال: إذا لم يصح بين الرمضانين صام عن هذا وأطعم عن الثاني ولا قضاء عليه، وإذا صح فلم يصم حتى إذا أدركه رمضان آخر صام عن هذا وأطعم عن الماضي، فإذا أفطر قضاه، إسناد صحيح. قال علماؤنا: وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها. وروي عن ابن عباس أن رجلا جاء إليه فقال: مرضت رمضانين؟ فقال له ابن عباس: استمر بك مرضك، أو صححت بينهما؟ فقال: بل صححت، قال: صم رمضانين وأطعم ستين مسكينا. وهذا بدل من قوله: إنه لو تمادى به مرضه لا قضاء عليه. وهذا يشبه مذهبهم في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، على ما يأتي.
الثانية عشرة: واختلف من أوجب عليه الإطعام في قدر ما يجب أن يطعم، فكان أبو هريرة والقاسم بن محمد ومالك والشافعي يقولون: يطعم عن كل يوم مدا.
وقال الثوري: يطعم نصف صاع عن كل يوم.
الثالثة عشرة: واختلفوا فيمن أفطر أو جامع في قضاء رمضان ماذا يجب عليه، فقال مالك: من أفطر يوما من قضاء رمضان ناسيا لم يكن عليه شيء غير قضائه، ويستحب له أن يتمادى فيه للاختلاف ثم يقضيه، ولو أفطره عامدا أثم ولم يكن عليه غير قضاء ذلك اليوم ولا يتمادى، لأنه لا معنى لكفه عما يكف الصائم هاهنا إذ هو غير صائم عند جماعة العلماء لإفطاره عامدا. وأما الكفارة فلا خلاف عند مالك وأصحابه أنها لا تجب في ذلك، وهو قول جمهور العلماء. قال مالك: ليس على من أفطر يوما من قضاء رمضان بإصابة أهله أو غير ذلك كفارة، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم.
وقال قتادة: على من جامع في قضاء رمضان القضاء والكفارة.
وروى ابن القاسم عن مالك أن من أفطر في قضاء رمضان فعليه يومان، وكان ابن القاسم يفتي به ثم رجع عنه ثم قال: إن أفطر عمدا في قضاء القضاء كان عليه مكانه صيام يومين، كمن أفسد حجه بإصابة أهله، وحج قابلا فأفسد حجه أيضا بإصابة أهله كان عليه حجتان. قال أبو عمر: قد خالفه في الحج ابن وهب وعبد الملك، وليس يجب القياس على أصل مختلف فيه. والصواب عندي- والله أعلم- أنه ليس عليه في الوجهين إلا قضاء يوم واحد، لأنه يوم واحد أفسده مرتين.
قلت: وهو مقتضى قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فمتى أتى بيوم تام بدلا عما أفطره في قضاء رمضان فقد أتى بالواجب عليه، ولا يجب عليه غير ذلك، والله أعلم.
الرابعة عشرة: والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة فمات من علته تلك، أو سافر فمات في سفره ذلك أنه لا شيء عليه.
وقال طاوس وقتادة في المريض يموت قبل أن يصح: يطعم عنه.
الخامسة عشرة: واختلفوا فيمن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه، فقال مالك والشافعي والثوري: لا يصوم أحد عن أحد.
وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور والليث وأبو عبيد وأهل الظاهر: يصام عنه، إلا أنهم خصصوه بالنذر، وروي مثله عن الشافعي.
وقال أحمد وإسحاق في قضاء رمضان: يطعم عنه. احتج من قال بالصوم بما رواه مسلم عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه». إلا أن هذا عام في الصوم، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر- وفي رواية صوم شهر- أفأصوم عنها؟ قال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها» قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك». احتج مالك ومن وافقه بقوله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 164] وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى} [النجم: 39] وقوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها} [الأنعام: 164] وبما خرجه النسائي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة».
قلت: وهذا الحديث عام، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: «لا يصوم أحد عن أحد» صوم رمضان. فأما صوم النذر فيجوز، بدليل حديث ابن عباس وغيره، فقد جاء في صحيح مسلم أيضا من حديث بريدة نحو حديث ابن عباس، وفي بعض طرقه: صوم شهرين أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها» قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: «حجي عنها». فقولها: شهرين، يبعد أن يكون رمضان، والله أعلم. وأقوى ما يحتج به لمالك أنه عمل أهل المدينة، ويعضده القياس الجلي، وهو أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها فلا تفعل عمن وجبت عليه كالصلاة. ولا ينقص هذا بالحج لان للمال فيه مدخلا.
السادسة عشرة: استدل بهذه الآية من قال: إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء أبدا، فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فعليه عدة، ولا حذف في الكلام ولا إضمار. وبقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من البر الصيام في السفر» قال: ما لم يكن من البر فهو من الإثم، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر. والجمهور يقولون: فيه محذوف فأفطر، كما تقدم. وهو الصحيح، لحديث أنس قال: سافرنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس. وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه خمس مسائل: الأولى قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل من غير اعتلال، والقياس الاعتلال. ومشهور قراءة ابن عباس {يطوقونه} بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه. وقد روى مجاهد {يطيقونه} بالياء بعد الطاء على لفظ يكيلونه وهي باطلة ومحال، لأن الفعل مأخوذ من الطوق، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال. قال أبو بكر الأنباري: وأنشدنا أحمد بن يحيى النحوي لابي ذؤيب:
فقيل تحمل فوق طوقك إنها ** مطبعة من يأتها لا يضيرها

فأظهر الواو في الطوق، وصح بذلك أن واضع الياء مكانها يفارق الصواب.
وروى ابن الأنباري عن ابن عباس {يطيقونه} بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه، يقال: طاق وأطاق وأطيق بمعنى. وعن ابن عباس أيضا وعائشة وطاوس وعمرو بن دينار {يطوقونه} بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة، وهي صواب في اللغة، لأن الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة، وليست من القرآن، خلافا لمن أثبتها قرآنا، وإنما هي قراءة على التفسير. وقرأ أهل المدينة والشام {فدية طعام} مضافا، {مساكين} جمعا. وقرأ ابن عباس {طعام مسكين} بالإفراد فيما ذكر البخاري وأبو داود والنسائي عن عطاء عنه. وهي قراءة حسنة، لأنها بينت الحكم في اليوم، واختارها أبو عبيد، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي. قال أبو عبيد: فبينت أن لكل يوم إطعام واحد، فالواحد مترجم عن الجميع، وليس الجميع بمترجم عن واحد. وجمع المساكين لا يدري كم منهم في اليوم الأمن غير الآية. وتخرج قراءة الجمع في: {مساكين} لما كان الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فجمع لفظه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أي اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم، بل لكل واحد ثمانون، قال معناه أبو علي. واختار قراءة الجمع النحاس قال: وما اختاره أبو عبيد مردود، لأن هذا إنما يعرف بالدلالة، فقد علم أن معنى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين أن لكل يوم مسكينا، فاختيار هذه القراءة لترد جمعا على جمع. قال النحاس: واختار أبو عبيد أن يقرأ {فِدْيَةٌ طَعامُ} قال: لان الطعام هو الفدية، ولا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل، وأبين من أن يقرأ {فِدْيَةٌ طَعامُ} بالإضافة، لأن {فِدْيَةٌ} مبهمة تقع للطعام وغيره، فصار مثل قولك: هذا ثوب خز.
الثانية: واختلف العلماء في المراد بالآية، فقيل: هي منسوخة. روى البخاري: وقال ابن نمير حدثناالأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. وعلى هذا قراءة الجمهور {يُطِيقُونَهُ} أي يقدرون عليه، لأن فرض الصيام هكذا: من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا.
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم. قال الفراء: الضمير في: {يُطِيقُونَهُ} يجوز أن يعود على الصيام، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ثم نسخ بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا}. ويجوز أن يعود على الفداء، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية. وأما قراءة {يطوقونه} على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك. ففسر ابن عباس- إن كان الاسناد عنه صحيحا- {يُطِيقُونَهُ} بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن. روى أبو داود عن ابن عباس {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال: أثبتت للحبلى والمرضع. وروي عنه أيضا {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. وخرج الدارقطني عنه أيضا قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، هذا إسناد صحيح. وروي عنه أنه قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ} ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعما مكان كل يوم مسكينا، وهذا صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال لام ولد له حبلى أو مرضع: أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء ولا عليك القضاء، وهذا إسناد صحيح.
وفي رواية: كانت له أم ولد ترضع- من غير شك- فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي، هذا صحيح.
قلت: فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر. والقول الأول صحيح أيضا، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، والله أعلم.
وقال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأصحاب الرأي: الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما، بمنزلة المريض يفطر ويقضي، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور.
وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي ثور، واختاره ابن المنذر، وهو قول مالك في الحبلى إن أفطرت، فأما المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والإطعام.
وقال الشافعي وأحمد: يفطران ويطعمان ويقضيان، وأجمعوا على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا. واختلفوا فيما عليهم، فقال ربيعة ومالك: لا شيء عليهم، غير أن مالكا قال: لو أطعموا عن كل يوم مسكينا كان أحب إلى.
وقال أنس وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة: عليهم الفدية. وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، اتباعا لقول الصحابة رضي الله عن جميعهم، وقوله تعالى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ثم قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين، فوجبت عليهم الفدية. والدليل لقول مالك: أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض. وروي هذا عن الثوري ومكحول، واختاره ابن المنذر.
الثالثة: واختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها، فقال مالك: مد بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل يوم أفطره، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع بر. وروي عن ابن عباس نصف صاع من حنطة، ذكره الدارقطني. وروي عن أبي هريرة قال: من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح. وروي عن أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينا فأشبعهم.
الرابعة: قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} قال ابن شهاب: من أراد الإطعام مع الصوم.
وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد. ابن عباس: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} قال: مسكينا آخر فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. ذكره الدارقطني وقال: إسناد صحيح ثابت. و{خَيْرٌ} الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث و{خَيْراً} الأول. وقرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي {يطوع خيرا} مشددا وجزم العين على معنى يتطوع. الباقون {تَطَوَّعَ} بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي.
الخامسة: قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي والصيام خير لكم. وكذا قرأ أبي، أي من الإفطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ.
وقيل: {وَأَنْ تَصُومُوا} في السفر والمرض غير الشاق والله أعلم. وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم، أي فاعلموا ذلك وصوموا.